الأحد، 9 ديسمبر 2012


                       sami hejazi

الإعتراف الأخير) ،


أزاحا فيه الغبار عن مجمل العمليات والظروف التي رافقت التجربة النووية العراقية، ومواقف الشخصيات المؤثرة تجاهها. من متنه ومما وثق التاريخ سنأخذ فكـَرا وصورا ومواقف ونتائج لتخرج تلك التجربة من كنف الغموض الى مرأى العين قبل أن يلفها النسيان.  


كان عزت ابراهيم لجهله يغير موضوع الحديث عندما يصبح علمياً أو تكنولوجياً ليتحدث بمواضيع أخرى مثل تجربته في إدارة الحزب أو آرائه الدينية أو تجربته في قيادة شؤون الزراعة في العراق. حتى انه ذات مرة عرضتُ عليه الموافقة على مشروع بكلفة أربعة ملايين دولار قال: ألا تخجلون من عرض أمر تافه كهذا علينا؟ فنحن دفعنا مبلغاً مقداره عشرة ملايين دولار لكل مدفع بعيد المدى. فكان وجوده في المشروع من عدمه سيان. واستمر العمل في الورشة الميكانيكية في موقع التويثة وأنشأنا ورشة متكاملة في موقع الزعفرانية، أسميناها معمل الربيع. وارتأى نائب رئيس اللجنة أن نستند إلى إمكانات منشآت المؤسسة العامة للصناعات الفنية لتنفيـذ التصنيع الميكانيكي، لأن هذه المنشآت -على عكس الطاقة الذرية- لا تجلب انتباه الأجهزة المخابراتية المعادية في التحقق عن سبب استيراد هذه المكائن، فصدرت أوامر صدام حسين إلى المؤسسة العامة للصناعات الفنية بتنفيذ جميع متطلبات الطاقة الذرية في مجال التصنيع الميكانيكي. فكان لابدّ من تطوير العمل التنظيمي والإداري، فعقدنا ندوة في منتجع الحبانية، وتوصلنا إلى إعادة هيكلة الدائرة، فاقتصر التنظيم الجديد على التشكيلات التالية: 

- إدارة البرنامج وتضم رئيس الدائرة والمستشار (الدكتور جعفر والدكتور نعمان) والسكرتارية.

- المجموعة الأولى (G1) وتضم جميع أنشطة التخصيب على وفق تكنولوجيا التنافذ الغازي.

- المجموعة الثانية (G2) وتضم جميع أنشطة التخصيب على وفق تكنولوجيا الفصل الكهرومغناطيسي.

- المجموعة الثالثة (G3) وتضم جميع الأنشطة الساندة (تخطيط ومتابعة، المشتريات الخارجية، الإدارة، التصميم الميكانيكي والإلكتروني، التصنيع الميكانيكي، التصنيع الإلكتروني).

وفي بدايات عام 1988 صدر قرار بإلغاء لجنة الطاقة الذرية وإعادة تنظيم برامج الطاقة الذرية العراقية ضمن ما عرف باسم منظمة الطاقة الذرية، وتم تعيين همام رئيساً لها، وجعفر نائباً للرئيس، وانتهى بذلك ارتباط اللجنة بعزت الدوري، وغَدَا ارتباط المنظمة بالسكرتير الشخصي لرئيس الجمهورية، كما كانت تسير الأمور من قبل. 

صدام لجعفر: لو أنتجت القنبلة النووية سأصنع لك تمثالاً من ذهب

عندما قرر رئيس منظمة الطاقة الذرية العراقية في مطلع 1987(الحديث للدكتور نعمان النعيمي)  أنه آن الأوان للبدء ببرنامج تطوير صنع السلاح النووي. فأخذ يفكر بِما سيفعله حين نكون قد أنتجنا كمية من اليورانيوم عالي التخصيب. هل نخزنه ونتباهى بقدرتنا على إنتاجه؟ أم نستغله؟ وفضل استغلاله باتجاه السلاح النووي وهو المبتغى وأيقن أن الحصول عليه سيرفع من مكانته أمام الرئيس العراقي وسيضعه موضع بطل وطني لا سيما أنه كان شاهداً للقاء جمعه وجعفر مع صدام حسين في حين قال صدام لجعفر: (لو أنتجت القنبلة النووية سأصنع لك تمثالاً شخصياً من ذهب). فاقترحنا على همام أن يؤجِّل البدء ببرنامج التسلح لحين اكتمال مشروع نصب الفاصلات الإنتاجية ولحين الحصول على كمية محسوسة من اليورانيوم عالي التخصيب. فبعث همام بمذكرة إلى صدام حسين تتضمن مقترحاً بالبدء ببرنامج التسلح النووي في موقع جديد غير موقع التويثة يكون محصناً أمنياً وأن تنفذه مجموعة غير مجموعة برنامج التخصيب التي يقودها جعفر واقترح أن يسمى البرنامج الجديد باسم (برنامج الحسين). 

أحلام الصهر المدلل حسين كامل

وصَلَت المذكرة إلى صدام وأحالها إلى النجم الصاعد والصهر المدلل حسين كامل، الذي بدأ نجمه بالصعود السريع منذ اقترانه بابنة الرئيس العراقي رغد صدام حسين عام 1983. فقد تمت سيطرته على تنظيم الأمن الخاص والإشراف على الحرس الجمهوري. واستولى على جميع فعاليات التصنيع العسكري بما في ذلك تصنيع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية (أسلحة الدمار الشامل) وعلى برنامج تطوير الصواريخ، فلم يبقَ سوى البرنامج النووي ليشبع طموح هذا الشاب الممتلئ حيوية ونشاطاً والرجل الثاني في السلطة بعد صدام حسين والابن المدلل له. فرأى في المقترح فرصته الذهبية للسيطرة على البرنامج النووي. فاقترح على (عمه) صدام أن تنتقل مجموعة همام المتخصصة ببرنامج الحسين هذا لتعمل بإشرافه المباشر وتحت مظلة جهاز الأمن الخاص الذي يشرف عليه أيضاً وإنه بذلك سيوفر للبرنامج السرية العالية والتحصين الكبير. وجد صدام رأي نجمه الجديد صائباً فأصدر الأمر بالعمل وفق مقترح حسين كامل الذي لم ينتظر كي يجف حبر الأمر الرئاسي فأبلغ همام هاتفياً وبلهجة الطفل المبتهج أن يرسل إليه مجموعة مشروع الحسين لتعمل بأمرته. وجاءه أمر صدام مدوناً بعد ساعات قلائل من مكالمة حسين كامل الهاتفية وأصبح واجب التنفيذ. وكان همام -حين بدأ يفكر بالبرنامج- قد كلف الدكتور خضر عبد العباس (وهو فيزيائي نظري مغمور من منتسبي مركز البحوث النووية) أن يُعدَّ له دراسة أولية عن برنامج التسلح النووي فاعتكف خضر في مكتبة التويثة أياماً قلائل وقرأ عدداً من المقالات السطحية حول تصميم السلاح النووي فنقلها نقلاً آلياً ووضعها ضمن دراسة مقتضبة لا تزيد عما يعلمه القارئ العادي في الكتب المنهجية بعلوم الفيزياء النووية. وعند التحاق المجموعة بحسين كامل قال حسين لخضر حمزة: من اليوم فصاعداً سيكون اسمك السري محمد حازم. وأخذ يغدق عليه الهبات وأولها بوضع سيارة وسائق تحت تصرفه فانتشى هذا العالم المغمور زهواً ووجد بوناً شاسعاً بين غرفته المتواضعة في مركز البحوث النووية ومكتبه الجديد الواسع ذي الأثاث الفاخر وعدد من الهواتف مع تخصيص خادم له وسائق يخدم عائلته إضافة لسائقه الشخصي فبدأ يتخيل أنه سيكون حقاً صانع القنبلة النووية لصدام حسين وأنه سيحظى بجوائز التكريم مؤملاً أن جميع أعمال مجموعة جعفر ليست أكثر من تقديم المادة الأولية (اليورانيوم عالي التخصيب) لقنبلته.

فرصة حسين كامل الذهبية

أخذ حسين كامل يتحين الفرص للاستيلاء على البرنامج بأكمله. وجاءته الفرصة الذهبية مرة أخرى في النصف الثاني من عام 1988 عندما عرض رئيس المنظمة همام عبدالخالق على صدام تقدم العمل في البرنامج النووي الوطني فذكر أن ثمة تأخراً في خطة تجهيز ثلاث ورش تابعة لمنشأة عقبة بن نافع بالمكائن المتخصصة، وأشار في مذكرته إلى وجود عثرات ضمن خطة تنفيذ أبنية ومرافق موقع الطارمية المخصص للمرحلة الإنتاجية من برنامج التخصيب بطريقة الفصل الكهرومغناطيسي. كان طبيعياً أن يحيل صدام حسين هذه المذكرة إلى حسين كامل بصفته وزير الصناعة والتصنيع العسكري وهي الوزارة التي اتهمها رئيس المنظمة بالتقصير. طار صواب حسين كامل حين قرأ المذكرة فهو يعتقد أن وزارته لا تخطئ ولا تتوانى في تنفيذ خططها، فأعاد المذكرة إلى الرئيس العراقي معلقاً: «إذا كانت معظم الفعاليات التصنيعية والإنشائية للمنظمة تتم في وزارتنا وإن كنا نحن سبّبنا التأخير فلماذا لا ينتقل البرنامج النووي الوطني بالكامل إلى وزارتنا كي نحكم سيطرتنا على حُسن تنفيذ فعالياته كلها ولا نكون الجهة الملامة في التأخير والتقصير». وتم عقد اجتماع في تشرين الأول (اكتوبر) من عام 1988. وبعد أن افتتح الجلسة أحمد حسين خضير بدأ حسين كامل الحديث بانفعال وصوت عال صاباً جام غضبه على رئيس المنظمة همام عبدالخالق متهماً إياه بتعليق إخفاقات برنامجه على شماعة منشآت التصنيع العسكري فغدا الوضع متشنجاً وبدا واضحاً للجميع أن المنظمة قد خسرت في الجولة الأولى ولا تستطيع الصمود أمام حجج حسين كامل ومقترحه الذي بدا منطقياً في معطيات الحدث، وكان رد همام متشنجاً وضعيفاً وهكذا انتهى الاجتماع.

قرارات ومراسيم

في صباح اليوم التالي اتصل بي حسين كامل هاتفياً وأخبرني بصدور قرار صدام حسين بنقل البرنامج النووي الوطني بجميع مشاريعه ومنتسبيه ومعداته إلى وزارة الصناعة والتصنيع العسكري. وطلب مني بأن يستمر العمل كما هو عليه وأن يكون الارتباط في كل الأمور به شخصياً. وفي مطلع عام 1989 صدر مرسوم جمهوري بتأسيس كيان اسمه مشروع البتروكيماويات 3 وهو اسم وهمي برئاستي وفي الوقت نفسه تم تعييني في منصب وكيل وزارة الصناعة والتصنيع العسكري وأن يرتبط هذا الكيان بالوزير حسين كامل. وقد تم الحصول على المعدات والمكائن والتجهيزات من الأسواق العالمية بأسلوب التخفي والتمويه ومن خلال أغطية تكنولوجية مموهة وعبر قنوات تجهيز ثلاث هي:

- قناة التجهيز من خلال دوائر وأقسام المشتريات في وزارات ودوائر الدولة، مثل الشركة العامة للمشاريع النفطية (سكوب) والمنشأة العامة للصناعات الكهربائية والمنشأة العامة للصناعات الهندسية الثقيلة.

- تأسيس أقسام مشتريات وهمية في وزارات معينة تعمل خصيصاً لتجهيزات البرنامج النووي الوطني، لا سيما التجهيزات بالغة الحساسية .

- تأسيس شركات وهمية ضمن القطاع الخاص لتتولى تصريف مشتريات البرنامج مثل شركة أحمد رشيد أحمد ومشروع تطوير الوحدات الصناعية وكنا نستعرض حاجتنا للمشتريات الخارجية فإن وجدناها تجهيزات اعتيادية نستوردها عبر قناة مشتريات الطاقة الذرية أما عندما نجد أن جهازاً ما أو معدة محددة متخصصة وقد تجلب الانتباه وتحرك جرس مراقبة الشركات المجهزة أو الأجهزة المخابراتية الدولية المعنية بمراقبة مشتريات العراق كنا ندرس مواصفات المعدة ونجتهد لإيجاد استخدام صناعي غير الاستخدام الحقيقي ضمن برنامجنا وعندئذ نحدد قناة المشتريات التي تتولى استيرادها. غير أننا لم نكن موفقين في جميع مشترياتنا بهذه الطريقة، لأن إجراءات الحصار دخلت حيز التنفيذ بعد ذلك بشهرين إثر غزو صدام لدولة الكويت.

الأيام تتسارع والمخاوف تتحقق

وبدأ تشاؤمنا يزداد يوماً بعد يوم غير أن عملنا تواصل وفق الخطة وبالزخم ذاته وكأن شيئاً لم يحدث وبدأنا نلاحظ عناد صدام وعدم استجابته للانسحاب من الكويت كما أنه لم يكترث لتجمع مئات الآلاف من أفراد قوات الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في منطقة الخليج العربي. واستمر صدام يعيش في برجه العاجي أسير أفكاره وتخيلاته إذ إن المعروف عنه - وهو يتباهى بذلك دوماً - أنه لا يتراجع عن قرار اتخذه. في ذات الوقت استمر نشاطنا في نصب الفاصلات الكهرومغناطيسية الإنتاجية في موقع الطارمية فاكتمل نصب ثماني فاصلات وخضعت للتشغيل التجريبي حيث أنتجنا ما يقارب 750 غراماً من اليورانيوم بدرجة تخصيب 3-4 في المئة وهو إنجاز مهم تكنولوجياً إلا أنه غير كافٍ - لا من حيث كمية المنتج ولا من حيث درجة التخصيب لصنع قنبلة نووية. ووصل البرنامج المعجّل بقيادتنا إلى مراحل متقدمة حيث أُنجز تصميم وتصنيع ونصب وتجربة منظومة استخلاص اليورانيوم من قضبان الوقود المخزونة ذات التخصيب العالي (93 في المئة) ثم جاء حسين كامل لتفقدها ففرح بما تحقق من إنجاز. 

الدكتور نعمان: الليلة الأخيرة

في حدود الساعة الثامنة من مساء الأربعاء 16/1/1991 قمنا بجولة ضمن أرجاء موقع التويثة، فتفقدنا خنادق الطوارئ، ووجدنا تلك الخنادق غير ملائمة للجوء المنتسبين داخلها فهي ضيقة ورطبة ومغطاة بصفائح غير سميكة من الفولاذ المغلفن وفوقها طبقة من التراب فاستنتجنا أنها غير ملائمة ولكن ما العمل الآن ؟! ثم ذهبنا للقاء أعضاء اللجنة المعنية بتنفيذ البرنامج المعجَّل فوجدناهم يستعدون لإذابة أحد قضبان الوقود الفرنسي المنشأ في خزان الإذابة وهي الخطوة الأولى ضمن خطوات استخلاص اليورانيوم عالي التخصيب من قضيب الوقود المكون أصلاً من يورانيوم مغلفٍ بسبيكة من الألمنيوم. وتقرر إرجاء هذه الخطوة الحاسمة إلى صباح اليوم التالي إذا لم يحدث العدوان في تلك الليلة ولنطلب من جعفر الحضور لمشاهدة البدء بهذا العمل الهام والمحفوف بالمخاطر التكنولوجية وبتبعاته السياسية. ولاحظنا أن مفاعل 14 تموز (IRT 5000) كان لا يزال يعمل بكامل طاقته في هذه الليلة التي تنذر بالشؤم، ولم أتدخل في الأمر حيث أن جعفر كان قد طلب من منظمة الطاقة الذرية الاستمرار بتشغيل المفاعل بهدف تشعيع مادة البزموث والحصول على مقادير من البولونيوم 210 لاستخدامه كقادح للقنبلة النووية. ووافق رئيس المنظمة على مضض تنفيذ الطلب وعدم رفضه فهو يعلم أن حسين كامل متأهب لإبلاغ صدام بأن رئيس المنظمة يضع العراقيل أمام البرنامج النووي، ومن يقوى على إزعاج صدام في تلك الأيام العصيبة ؟! غادرت بعد ذلك إلى داري مرهقاً وخلدت إلى نوم قلق دون تناول وجبة العشاء المتأخرة جداً. وعند الساعة الثانية والنصف من بعد منتصف الليل استيقظنا مع جميع أفراد العائلة على أصوات انفجارات مدوية فتجمع الجميع في ركن آمن من أركان البيت. في الساعة السابعة من صباح يوم 17/1/1991 وصل السكرتير مؤيد (أبو أحمد) إلى دارنا يقود السيارة المخصصة لنا أثناء الطوارئ وكانت من نوع لاندكروز واصطحبنا إلى موقع التويثة، وصلنا وسكرتيرنا الذي واصل مرافقتنا طيلة أيام الحرب إلى موقع التويثة فوجدنا سامي الأعرجي وفريق طوارئه قد تخندق في ملجأ تحت أرض مباني هيئة الخدمات الهندسية الواقعة قرب السياج الخارجي لموقع التويثة. وتجولنا ضمن موقع التويثة نتفقد أبنيتها فوجدناها سالمةً ولم تصب بأذى. 

الدكتور جعفر: في صباح يوم العدوان

غادرتُ منزلي صباح الخميس يرافقني الملازم الثاني محمد ياسين قاصداً الموقع البديل لمقر وزارة الصناعة والتصنيع العسكري - في بناية تسويق إطارات السيارات في موقع السيدية جنوب غربي بغداد - ومن هناك توجهنا إلى مصنعي الربيع ودجلة في موقع الزعفرانية القريب من موقع التويثة فالتقينا بمنتسبي الطوارئ فيها وارتحنا لحالهم. ثم بعد ذلك غادرنا بسرعة إلى مركز السيطرة على توزيع القدرة الكهربائية ضمن بغداد وهو يتبع مؤسسة الكهرباء ومن بعد ذلك زرنا المحطة الثانوية بجهد 400 كيلوفولت في شرق بغداد كما زرنا محطات التحويل الثانوية بقدرة 132 كيلوفولت والموجودة في منطقتي المشتل وبغداد الجديدة جنوب - شرقي بغداد وتفقدنا جميع هذه المحطات وأعددنا تقريراً موجزاً بالدمار الذي لحق بها في الليلة الأولى من القصف أرسلناه إلى الموقع البديل لاطلاع الوزير حسين كامل. مساء يوم الجمعة 18/1/1991 ظهر جورج بوش الأب على شاشة التلفزيون ليعلن للأمة الأميركية وللعالم أجمع أن جميع المنشآت النووية العراقية قد دُمرت بالكامل ولم تعد تشكل خطراً على السلام العالمي. أثار إعلانه ذلك لدينا الاستهزاء والسخرية فنحن نعلم أفضل من أي شخص آخر أن جميع منشآتنا النووية كانت سالمة إلى تلك اللحظة فأدركنا أن العدوان الأميركي على العراق لم يكن قطعاً لتحرير الكويت بل كان هذا (التحرير) ذريعة لتحطيم كل ما بناه العراق من معالم الحضارة الإنسانية المعاصرة وأن أهم معلم يرغب بوش تدميره هو البرنامج النووي لتبقى إسرائيل المدللة الوحيدة في المنطقة العربية والتي تمتلك سلاحاً نووياً ترهب به العرب. ومما يجدر ذكره أن الجمعية العامة للوكالة الدولية للطاقة الذرية كانت قد أصدرت قراراً تأريخياً في أعقاب عدوان إسرائيل على مفاعل تموز العراقي في 7 حزيران 1981 وينص على أن العدوان على منشآت نووية يكافئ عدواناً بالسلاح النووي. واستناداً لهذا القرار وظناً منا أن أخلاقيات دول الحلفاء سوف لن تسمح لها بالاعتداء على المنشآت النووية العراقية أثناء هذه الحرب كي لا تعرض العراق والدول المجاورة لأخطار تسرب إشعاعي. وكم كان ظناً خاطئاً فلم تمضِ سوى أيام قلائل على إعلان بوش الأب حتى انقضّت طائرات وصواريخ الأمريكان على مباني موقع التويثة وهو الموقع المعلن والمعروف للجميع بكونه موقعاً نووياً. فدمرت مفاعل 14 تموز للأبحاث والذي كان يعمل بكامل قدرته عشية عدوان عاصفة الصحراء ثم دمرت مبنى مفاعل تموز2 وهو المفاعل قليل القدرة الذي لم تصبه إسرائيل في عدوانها قبل عقد من السنين وربما كانت مدركةً ضمن خططها الشيطانية أنها ستترك تدميره لحليفتها الولايات المتحدة الأميركية. وكاد تدمير هذين المفاعلين أن يخلق حادثة نووية مروِّعة لولا عناية الله جلت قدرته في حماية العراق.

الدكتورنعمان: إنقاذ ما يمكن إنقاذه

جاء هذا العدوان على موقع التويثة ليضعنا أمام مسؤولية كبيرة تجاه شعبنا وتجاه شعوب العالم فتقرر نقل الوقود من تحت أنقاض المفاعلين المدمرين إلى موقع آمن في مكان قريب من موقع التويثة يسمى جرف الندَّاف ويبعد عنه نحو 7 كم فأجرى جعفر اتصالات مستعجلة وعلم بوجود أحواض كونكريتية لدى منشأة الفاو العامة بحجم 2.5×2×2 متر مكعب فابتاع عدداً منها ووضع كل واحدة داخل حفرة في موقع جرف الندّاف وضمن محيط دائرة واسعة. وتولّى مصنع الربيع الميكانيكي تصنيع أحواض من الحديد المغلفن ثم وُضعت داخل الأحواض الكونكريتية.. كما تطوع عدد من المنتسبين للتسلل إلى أقبية الوقود في أحواض مائية تحت أنقاض المفاعل المدمر وكأنهم محترفو تسلق الجبال تحزموا بحبال يمسك بها رجال خارج المبنى المدمر فأخرجوا قضبان الوقود من مخابئها تحت الأنقاض ونقلوها إلى الموقع الأكثر أمناً ضمن سلالٍ من الشباك المصنوعة من الفولاذ الذي لا يصدأ وأشرف الدكتور جعفر بنفسه على هذا الإنجاز الكبير الذي تم أثناء النهار وفي فترات متقطعة بين غارات الحلفاء غير آبهين بتساقط القنابل من حولهم يدفعهم إلى ذلك شعورهم الوطني بواجب تجنيب العراق كارثة بيئية محققة هي عندهم أهم بكثير من أرواحهم وسلامتهم. 

الدكتور جعفر: تداعيات وقرارات جديدة

وفي نيسان 1991 صدر قرار بتفكيك وزارة الصناعة والتصنيع العسكري إلى كيانين: الأول هو وزارة الصناعة والمعادن والثاني هيئة التصنيع العسكري، وبقي حسين كامل مشرفاً عليهما. وعُيِّن عامر السعدي وزيراً للصناعة والمعادن، وحيث أنني كنتُ قبل ذلك مسؤولاً عن قطاع الكهرباء. في 8 تموز 1991 أصدر حسين كامل أمراً بتعييني مديرا لهيئة التصنيع العسكري وكالة ما أبعدني أكثر فأكثر عن منتسبي بترو-3. في تشرين الأول من العام ذاته استقال حسين كامل من جميع مناصبه، ذلك لأن صدام استجاب لوزير الإسكان والتعمير المهندس محمود ذياب أحمد المشهداني الذي زف بشرى اعادة اعمار جسر الجمهورية إلى صدام مباشرة من دون المرور على حسين كامل الذي كان مسؤولا عن الاعمار. وقبِل صدام استقالة صهره وعيّن ابن عمه علي حسن المجيد (وهو عم حسين كامل) وزيراً للدفاع. بعد ذلك تسلمنا أمراً خطياً من رئاسة الجمهورية بضرورة التحاقنا بمنصبنا السابق وكيلاً لوزارة الصناعة والمعادن وأن نستمر بتركيز جهدنا لإدارة شؤون قطاع الكهرباء. وفجأة قرر صدام آخر شباط 1992 إعادة تعيين حسين كامل مشرفاً على هيئة التصنيع العسكري. فقام الأخير بنقل بترو-3 بكامل معداتها وتجهيزاتها ومنتسبيها إلى الهيئة، ومن ثم تم إلغاؤه. وبذلك أضعتُ أفضل مرحلة من عطائي العلمي ضمن برنامج لم يعطِ ثماره.

في الحلقة الثالثة: الفأر والقط

الأربعاء، 15 فبراير 2012

جـــــرحي أنــــا قصيدة





                                                     جـــــرحي أنــــا  قصيدة


      ألا يامن لقى جرحي قصيدة في حضن جدران                                تأملها على بعد النظر وتحس بأحزاني


     أنا جرحً طغى حتى تعدا حاجز الوجدان                                       صغير السن لكني كبير بجرح وجداني


     أنا باقي بقايا شئ يفكر يوم كان إنسان                                      على هامش سطر وقتي تلاحظني وتقراني


     أنا من عانق أحلام التفاؤل وإنكسر خسران                                سرى في غيهبٍ مظلم طريقه حيل عناني


     وأنا منهو قسى وقته وشرب من قسوة الحرمان                           مسافه والسراب أغرا عيوني وخلت غدراني 


     وأنا من مات أبوي وشلت أمانه ودينٍ وديان                               ووصيه شفتها بعينه أكون عيون لإخواني


    كسرني الهم يامصعب وفكري سارحٍ حيران                                أخفي عبرتي وقلبي تفطر هم وأشقاني


    وألا يامن لقى جرحي قصيده كلها أشجان                                   تأكد مابقى غير الشعر إنسان واساني


   وترى ماكل ماتقرا قصيده تعانق الجدران                                      تحسب إن روحها جرح ومشـاعرها من أحزاني


سامي حجازي